الجمعة، 5 مايو 2017

مسيحيو الشرق والدولة الوطنية

هدأت العاصفة الهوجاء التي كادت تعصف بالبلاد، والتي كانت محملة بشحنات من الدم المسال على الأرض الذي لم يفرق بين مسلم ومسيحي وشحنات من الحناجر الغاضبة، التي كادت معها أن تنزلق مصر إلى هوة سحيقة على خلفية مشهد أصبح مألوفاً، وهو تفجير الكنائس في مصر، ورجع كل شيء إلى طبيعته وسيرته الأولى من كلمات منمقة وحياة اعتيادية تعود عليها المصريون، ونسي أو تناسى الجميع أننا جالسون على لغم أرضي حساس جداً قابل للانفجار مرات ومرات عديدة، وهو هنا ليس لغماً دينياً بقدر ما هو لغم العجز والتراخي، ولن تنفع معه كل المقابلات الرسمية، والتطمينات من أعلى الجهات في الدولة من أن ينفجر، ويفجر كل المشاكل التي على شاكلة اللعب على وتر المشكلات العرقية والدينية والمذهبية.

إن الحقيقة الساطعة التي لم تكذبها الأرقام هي أننا نعيش حالة من محاولة سلخ مكون ثقافي وحضاري أساسي من مكونات العقلية العربية، وتلك الأرقام تقول بأن نسبة المسيحيين في الدول العربية قد تناقصت بالنسبة للمجموع العام للسكان، منذ بداية القرن العشرين وحتى بداية أزمة صعود التيارات التكفيرية، فيما تلا فشل الربيع العربي من 20% إلى 5%، وهم يتمركزون بصفة أساسية في المشرق العربي (مصر – العراق – سوريا)، وفي المقابل لا تعرف أرقاماً وإحصائيات محددة ودقيقة عن حجم التراجع في تلك النسبة بعد صعود الحروب الأهلية في العراق وسوريا، وكذلك الخوف من صعود التيارات الدينية المخالفة لها لسدة الحكم في البلاد العربية، وتصاعد موجات من الكراهية غير محددة الإطار ولا الهدف من تلك الكراهية، وهنا نقول ما السبب وراء ذلك التراجع في الأعداد وما يقابلها من انتشار لروح العداء والكراهية بين مكونين رئيسيين من مكونات الثقافة العربية؟

كنت حاضراً لمشهدين مع شخصين مختلفين، وفي مكانين مختلفين وزمنين مختلفين أيضا، ولكنهما مشهدان في اعتقادي كاشفين لحقيقة الأوضاع التي نعيشها:

المشهد الأول: الزمان 2004 – المكان الكويت العاصمة

عند وصولي للكويت للعمل بإحدى الهيئات الإسلامية الخيرية، ومع ضرورة إتمام الإجراءات القانونية المتبعة، فقد كان لزاماً أن أتم تلك الإجراءات، وهو ما كان يستلزم خروج أحد العاملين الإداريين معي، وهو مختص بذلك لإتمام تلك الإجراءات وهو يسمى بـ”المعقب”، وهو من “البدون”، وفي إحدى المرات التي خرجنا فيها سوياً، وبعد أن اجتزت أول اختبار، وبينما نركب السيارة حتى رأيت منطقة محاطة بسور عالٍ جداً، فسألته عن ذلك السور، فأجابني “إنها مقابر الشيعة الروافض الكفرة”، وعرض علي أن آخذ “سي دي” عليها خطب أحد المشايخ، يتكلم فيها عن الشيعة الروافض، وطبعاً تحججت بأنني لا أملك كمبيوتر، وبينما نحن نسير في الطريق، وقفنا في إشارة مرور وفجأة وجه لي سؤالاً مباغتاً ودار الحوار التالي:
المعقب: أستاذ ياسر هو إنتو عندكم مسيحيين؟
أنا: طبعاً عندنا مسيحيين وكتير كمان.
المعقب: وإنتو ساكتين عليهم ليه ما تقتلوهم؟
أنا: نقتل مين هما فراخ، دول ملايين وعايشين معاهم طبيعي جداً.

وقبل أن يكمل ويسترسل قمت بتغيير الحوار، وبينما نحن نقترب من مكان عملنا بالهيئة الخيرية الإسلامية وجدته يلفت نظري لشيء مهم، وهو أن المكان الذي نعمل فيه القائمون عليه هم “كفرة أيضاً”، فقلت له: “ولماذا تعمل معهم؟”، فرد قائلاً: “لأنني لا أجد عملاً غيره، ثم إنني مقدم طلب لوظيفة في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية، وقريباً سأترك هذا المكان”.

المشهد الثاني: الزمان 2011 – المكان مدينة العبور مصر
بينما تتعالى أصوات الجماهير في ميادين مصر بعد 25 يناير/كانون الثاني فقد بات من المؤكد أن النظام سيسقط لا محالة، وهو ما كان محور حديث ثلاثي بيني وبين اثنين من الأصدقاء السوريين الذين يعملون معي وهما من الطائفة المسيحية في سوريا، وتشعب الحديث وكان من وجهة نظري أن النظام السوري هو الآخر سيسقط، وأن اندلاع التظاهرات مسألة وقت إلى أن ذكرت أن سوريا مرشحة للثورة بسبب نظام التوريث، الذي بدأ بمشروع توريث “باسل الأسد” الذي وافته المنية قبل اكتمال الحدث، وهنا وجدت أن أحد الأصدقاء قد بدا مستفزاً وراغباً في الحديث وقاطعني قائلاً: “باسل الأسد كان من أشد المخلصين، وأنه يحافظ عليهم ويحميهم”، هنا وجدت أن نهاية الحديث وتغيير مجراه ضرورة لمراعاة المشاعر وحفاظاً على صداقة وجدت أنها قد تكون معرضة لخطر الخلاف السياسي.

التكفير والطائفية هما مكمن أزمة مسيحيي الشرق، تكفير ظهرت بوادره مع نهاية السبعينات عندما بدأت الدولة الوطنية الحديثة التي ظهرت في منتصف خمسينيات القرن العشرين تأخذ منحنى الهبوط والنكوص عن فترة التحديث واعتمادها على التمايزات المذهبية والعرقية الداخلية لضمان استمرارية أنظمتها السياسية، وصولاً لأحداث 11 سبتمبر/أيلول التي غيرت شكل المنطقة بالكامل، والتي أخرجت وحش التكفير من عقاله، الذي أدى بالضرورة إلى تمسك الأنظمة السياسية بشدة بسياساتها الطبقية والمذهبية كمبرر أمام الغرب في وجه تنامي التنظيمات السياسية الدينية، ولكن ما أن اندلعت أحداث الربيع العربي 2011، وما واكبها من أحداث دموية، حتى وجد التكفيريون الأرض خصبة لهم يلعبون كما الحكومات الوطنية على وتر الخلافات المذهبية لكسب التعاطف والتمويل، فكانت الهجمات على الكنائس في العراق، وتصاعد وتيرتها في مصر وفي غيرها،

مما أدى مع تصاعد أعمال العنف في المنطقة إلى عملية هجرة، بل نزوح وترك الأوطان، وأصبح المكون المسيحي للثقافة العربية مهدداً بالزوال حتى ما إن هدأت الأوضاع بعد 30 يونيو/حزيران في مصر، وبداية عملية هدوء في الأوضاع الداخلية حتى ظهر التكفير، وبدأ يضرب بقوة في محاولة لجعل دولة ما بعد الربيع العربي ترجع لسابق ممارساتها السياسية السابقة، والتي تلعب على وتر التمايزات الطبقية والمذهبية لضمان استمراره، وهو ما قوبل بوضع جديد مفاده أن الدولة المصرية في طريقها نحو التخلص من تلك السياسة، وأن قواعد جديدة للتعامل الداخلي يجرى تدشينها، وهو ما يجعل من الظهور المتكرر لرئيس الدولة بين جدران الكنيسة في الاحتفالات علامة فارقة ومقلقة للتكفيريين.

ولكن هل مفهوم جمهورية ما بعد الربيع العربي قادر على محو الأخطاء والممارسات الفادحة للدولة الوطنية، التي سقطت على يد مفاهيم وقيم جديدة، تريد التحديث واقتصاداً قوياً وتعليماً يريد المستقبل، تريد البعد عن ممارسات الطائفية والمذهبية، وإعلاء قيم المواطنة، وهذا يتوقف على أن نصارح أنفسنا بأن زمن الدولة الوطنية بمفهومها القديم لن تكون قادرة على التخلص من التكفير ولا المحاباة المذهبية التي تحفظ لها مكاناً في عيون الغرب وادعاء كاذباً بحماية الأقليات الدينية؛ لذلك يجب أن نتخلص من تلك المفاهيم والممارسات، وأن نحاول أن نبني دولة جديدة قادرة على استيعاب الجميع، وأن نعي أن المكون الثقافي العربي له روافد دينية متعددة قادرة على بلورة رؤية جديدة للمستقبل بعيداً عن القتل والتشريد.
هل نستطيع مسلمين ومسيحيين تجاوز أخطاء الدولة الوطنية؟

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

The post مسيحيو الشرق والدولة الوطنية appeared first on الامل نيوز.



from الامل نيوز http://ift.tt/2pO1mCK
via IFTTT

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق